مشهد حي في قصة .. أيها السادة قبل فوات الأوان تصدوا للفقر وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
بقلم : عصام غزال
مررت ببعض الطريق، حينها لفت انتباهي مشهد لم أستوعبه في البداية … هناك على بعد بضعة أمتار سواد جلبابها وغطاء رأسها المغبران يلفان قامة انحنت تحت وطأة سنين وهموم الحياة، تحاول جاهدة تسلق حاوية المهملات الحديدية الكبيرة، تصارع للوصول إلى قلب الوعاء الأخضر الممتلئ بالنفايات.
راقبتها غيرَ مصدقٍ، رافضاً الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يفسر مشهداً ألفناه للقطط وليس لبني البشر ..
أخيراً .. نجحت في التعلق بحافة الحاوية، فغاص نصفها العلوي داخلها بينما تدلى نصفها الآخر خارجاً، وما هي إلا دقائق .. حتى خرجت وفي يديها كومه صغيرة، تنحني بها ركنا قصياً، تفترش الأرض قرب سور الملعب القريب لتنكبّ كطائرٍ على صيدٍ اقتنصته، تفتش بعناية بين الفضلات عمّا يسد رمقها.
غص قلبي بالحزن وأنا أتأملها … كومة قماش أسود هزيلة قرب كومة مهملات، بقايا إنسان وبقايا طعام، كلاهما مرمي على حافة الطريق.
يدان تقلبان حفنة القاذورات وتعبثان بملامح وجه الدنيا ،تهشمان شيئاً ما في داخلي …
كان المشهد مخزياً … مهيناً للإنسانية، ((تضائلتُ … وبدا الحل صغاراً )) أين المجتمع ؟ أين (تركم) جهود وعقول الشرفاء؟ أين تضحياتهم في سبيل رقي الإنسان وكرامته ؟
أيقنت حينها أن الكثيرين يعانون … ينامون جائعين، معظمهم محروم نعمة المعرفة، وغالبيتهم يحلمون بمياه شرب لا تسبح فيها الأوساخ والأمراض … امتزج الخجل بالغضب وأنا أفكر بما تشربناه من قيم تعاون وتكافل، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم به ” تناقلناه ألفاً وخمسمائة سنة … ألا نطبق ما حفظناه عن ظهر قلب ؟
ذهبت باتجاهها … لم تلمحني في البداية، ولكنها -وقد رنوت- رفعت إلي نظرة خجل وتكومت أكثر ملتصقة بجدار الملعب خلفها، تململت بقلق من يود الهرب، ومن هذا القرب كان بوسعي تبيّن تفاصيل وجه حفرته أخاديد القهر وكساه الجوع بالشحوب … حاولت رسم ابتسامة مطمئنة فوق شفتي نظرت إلي بخجل يعبر قسماتها، لكنها سرعان ما استعادت قناعاً خالياً من التعابير ..
توقف الزمن وكل منّا يحدق بالآخر، تبادلنا حديثاً طويلاً ذا شجون دون أن ينبس أيّ منّا بكلمة … بعدها لم أدر من منّا بقي متسمراً خلف كومة نفايات صغيرة يتابع آخر أدار ظهره وغادر بتثاقل ..
تابعت طريقي وعيناها اليائستان تملآن كل الطرقات أمامي ..
ما أقسى الحياة بل ما أقسى البشر … حقاً “لو كان الفقر رجلاً لقتلته ” ..
كان ذلك بُعيد الغروب … منذ بضعة أيام، وبما أن الموقف ما فتئ يتثاقل داخلي مذ ذلك الوقت، كان لا بد أن أكتب عنه كي أرتاح ..
شلني بعدها بشدة هاجس وطن خال من الجوع والذل ،فكرت في أهمية أن يمنح كل منّا ولو شيئاً يسيراً لتخفيف معاناة هؤلاء الذين يتألمون … “ما نقص مال قطّ من صدقة ”
أدركت أنه ليس حلاً شافياً لمشكلة الفقر وأبو ذر الغفاري يقول : “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه ؟” إذا من لا يفعل شيئاً ضد الفقر من باب الرحمة فليفعله من باب الحكمة ،كي يستمر توازن المجتمع ويتجنب الهزات العنيفة ،أليس الفقر أبا المصائب ومفجّر الثورات ؟ ألا تدفع الحاجة الكثيرين إلى الحقد والتمرد على مجتمع لا يؤمنون بعدالته ؟
مقاومة الفقر ضرورة ملحة تتطلب جهود الدول والهيئات والمؤسسات وسنّ القوانين التي تحرص على التوزيع العادل من قبل سلطة تنظر إلى الحياة من زاوية الحق والمساواة في الحق … وهل هناك حقّ أهم من الحياة ؟ الحياة -لا المال- أولاً صيحة من يعلن تمرده على الفقر وأسبابه ..
هي مسؤولية الجميع .. وجريمة جشع قلّة لا تهتم إلا بالربح ولو فوق أشلاء غالبية مطحونة، ولا ترى الناس إلا من زاوية تراكم المال، بعض الناس لا يبصره لأن يكابرون “يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ” و بعضهم لا يشعر به لأنه يعيش لا يدري بما يجري للفقير، منطقه منطق الملكة ماري انطوانيت تجاه شعبها الذي لا يجد الرغيف “فليأكلوا البسكويت ” ومن لا يعرف آخرتها فالشعب الذي لم يأكل البسكويت دق عنقها الجميل في ثورة ما زال صدى شعائرها العظيمة يتردد بعد مضي أكثر من مئتي عام ..
أيها السادة قبل فوات الأوان تصدوا للفقر، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
تنويه : المقال يعبر عن رأي كاتبه، وتجمع أحرار حوران ليس مسؤولاً عن مضمونه.