تغير الأدوار الجندريّة للنساء بعد الحرب في محافظة درعا
تجمع أحرار حوران – وردة الياسين
كمثالاً على ذلك تمكنا من التواصل مع نساء من محافظة درعا، جنوبي سوريا، ألقت الحرب بظلالها عليهن ودفعتهن للعمل في وظائف ومهن لم يسبق لهن العمل فيها، وحاولنا التركيز على العوامل التي ساهمت بتغير الأدوار الجندريّة، نظرة المجتمع وتفاعله مع هذا التغير ونظرة النساء ذاتهن له، وهل يرى المجتمع عمومًا والمرأة على وجه الخصوص هذا التغير طارئاً وليد الحالة، أم هو بداية لخلق ثقافة مجتمعية جديدة تكسر الصورة النمطية لدور النساء ووظيفتهن في المجتمع؟
الأسماء في هذا التقرير هي أسماء مستعارة حفاظاً على أمن وسلامة المشاركات والمشاركين.
تفرض الثقافة المجتمعية السائدة في مجتمعاتنا العربية على النساء أدوارًا ووظائف محددة سلفًا تسمى بالأدوار الجندريّة، كأن تكون وظيفتهن الأساسية والتي خلقن من أجلها هي الإنجاب، العناية بالأطفال، والقيام بالأعمال المنزلية من طهي وتنظيف. وهن وإن خرجن لسوق العمل غالبًا ما يعملن في مجالات وميادين تتقاطع بشكل كبير مع دورهن ووظيفتهن الأساسية كمهنة التدريس والتمريض.
جاءت الحرب السورية والمستمرة منذ أكثر من عشرة سنوات لتقلب حياة السوريين والسوريات رأسًا على عقب، وأدت ظروفها وضغوطاتها المرافقة إلى تغير واضح في الأدوار الجندريّة بين النساء والرجال، فعملت النساء في وظائف ومهن لم يسبق لهن ممارستها سابقًا، وأبعد من ذلك احترفن مهن كانت تعتبر مهن مخصصة للرجال.
غياب المعيل والحاجة المادية، الدافع الأقوى لخروج النساء إلى سوق العمل
“لم يكن لدي خيار الاقتناع أو عدم الاقتناع بالعمل، الوضع الراهن والحاجة أقوى من أي قناعة، ولو لم أقم بذلك العمل لعشت أنا وعائلتي على الصدقات” هذا ما تقوله أم محمد الأرملة الأربعينية من ريف درعا الشرقي والتي تعمل كسائقة سيارة أجرة.
عاشت أم محمد مع زوجها وأطفالها الأربعة في إحدى دول الخليج العربي، ووصفت وضعها المادي بالجيد قبل أن يتوفى زوجها وتضطرها الظروف إلى مغادرة دول الخليج والقدوم إلى سوريا في عام 2016.
تقول لتجمع أحرار حوران “كنت وزوجي وأطفالي الأربعة مكتفين مادياً ولدينا دخل جيد، عندما كنا نعيش في إحدى دول الخليج العربي، لكن كل شيء تغير بعد أن توفي زوجي بسبب مرض قلبي، مما اضطرني إلى العودة مرغمة إلى سوريا، بدون دخل أو معيل”.
“اصطدمت بالواقع المعيشي في درعا حيث معظم السكان دون خط الفقر، لم يكن بالإمكان أن يساعدني أنا وأطفالي مادياً أحد، سواء من أهلي أو من أهل زوجي، وبالتالي كان لابد من إيجاد حل لأحصل على دخل أعيل به نفسي وأولادي”، وتتابع: “اشتريت بكل المال الذي ادّخرته سابقاً سيارة، وقررت وبعد تفكير طويل استثمار هذه السيارة والعمل عليها كسائقة سيارة أجرة”.
وتروي أم محمد عن بداياتها في العمل كسائقة سيارة أجرة “في البداية اقتصر عملي على إيصال بعض الأقارب والجيران وخاصة النساء إلى مناطق قريبة في القرية، ولكن لاحقاً تم تداول رقمي بين الكثير من مجموعات النساء اللواتي رحن يتواصلن معي لإيصالهن إلى مناطق في القرية وخارجها، وهكذا أصبحت اليوم معروفة بين أغلب سكان محافظة درعا كسائقة سيارة أجرة”.
وفي السياق ذاته، أجبرت الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع تكاليف الدراسة الجامعية، فاتن (28 سنة)، عازبة من ريف درعا الشرقي، على ترك جامعتها والعمل في مهنة الدهان والرسم على الجدران لإعالة نفسها وأخواتها الستة.
تقول فاتن “لم أتمكن من تحمل تكاليف الدراسة الجامعية مع تدهور وضع عائلتي الاقتصادي الذي كان يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، الأمر الذي أجبرني على ترك دراستي في كلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية، عندما كنت في السنة الثانية، والبحث عن عمل أعيل به نفسي وأخواتي الفتيات الستة”.
ولدت فاتن وهي تتمتع بموهبة الرسم، وكان أهلها يصفونها بالرسامة الموهوبة، فما كان منها إلا أن قامت باستغلال موهبتها هذه لتعمل في مهنة الدهان والرسم على الجدران بدايات 2015 لتحسين وضعها الاقتصادي.
وعن هذا تشرح فاتن “لجأت إلى رسم لوحات فنية على الأبواب والجدران، سواء على جدران المدارس والصفوف أو جدران المنازل لمن يرغب بإضفاء لمسات فنية على منزله، كما عملت على طلاء جدران الغرف المنزلية والمدرسية، ولاحقاً صرت أحفر على الخشب دعوات الأفراح والزفاف، ولتطوير عملي وجعله يعود على بمردود مادي أفضل، قمت بتعليم بعض أخواتي البنات أعمال الدهان المنزلي والترخيم وهو نوع من أنواع الدهان أو التحديد والرسم”.
أمّا أم أسامة (45 عاماً) من ريف درعا الشمالي فتتكون عائلتها من سبعة أفراد، زوجها موظف لا يكاد راتبه يغطي تكاليف بضعة أيام من الشهر، وأكبر أبنائها التحق بالخدمة العسكرية الإلزامية فضلاً عن البقية فهم تلاميذ وطلاب في المدارس، تعمل الآن كمعتمدة لتوزيع المواد التموينية التي تقوم بصرفها الشركة السورية للتجارة على البطاقة الذكية للعائلات.
في بداية عام 2015 وبسبب دخلنا المتدني، عملت على إحضار جرات الغاز من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق المعارضة لعدد من الأهالي الذين لا يمكنهم الذهاب إلى مناطق النظام، حيث من الممكن أن يتعرضوا للاعتقال لأسباب أمنية أو عسكرية، بحسب أم أسامة.
وتضيف قائلة “عقب أن أصبحت المناطق التي كانت تخضع لسيطرة فصائل المعارضة تحت سيطرة النظام، بدأت أجلب المخصصات التموينية لأخواتي وأهلي وجيراني، الأمر الذي سيخفف عنهم عبء الانتظار لساعات طويلة أمام أماكن توزيع المخصصات التموينية، مقابل حصولي على تعويض مادي بسيط، وبعد فترة قصيرة اتسعت دائرة عملي وأصبحت أحضر المواد التموينية لعائلات أخرى في المنطقة، وهكذا صرت محل ثقة لكثير من العائلات التي جعلتني معتمدة لجلب موادهم التموينية من سكر ورز وغيرها، حيث أذهب إلى عدة مراكز توزيع في عدة مدن في المنطقة وذلك بحسب تسجيل العائلات لبطاقاتهم الذكية بمراكز مختلفة ومتفرقة”.
كيف غير العمل حياة النساء ونظرتهن إلى أنفسهن؟
“البدايات كانت صعبة جداً، ولكن بعد ممارسة العمل لوقت طويل أصبحت أشعر أنه جزء مني وأني أمتلك كياني الخاص، لا يحق لأحد التدخل بشؤوني أو فرض أي رأي علي” هذا ما قالته أم أسامة عمّا غيّره العمل في شخصيتها.
ورأت أم محمد أنّ إحساسها بالاستقلالية هو أفضل ما شعرت به من عملها كسائقة سيارة أجرة “لم يكن العمل اختياري وبرغبتي بل كنت مرغمة على ذلك، ولكن بشكل عام هناك إحساس بالاستقلالية وإحساس بالاكتفاء المادي، فأنا بشخصي أحقق اكتفاء عائلتي وكفايتها عن حاجة الناس، فذلك وحده لا يضاهيه أي إحساس أو شعور”.
وتشعر فاتن بالرضا التام عمّا تقوم به وتعتبر أنّ مهنة الدهان والرسم على الجدران كانت بمثابة تنمية وتطوير لهوايتها في الرسم، وإضافة لذلك فالعمل لم يغير وضعها الاقتصادي فحسب، بل غير وجهة نظر الناس حولها وموقفهم من عمل المرأة في مهنة كالدهان، فتقول “أثبت قدرتي ونجاحي في خلق لوحات فنية على الجدران، وتمكنت من القيام بعملي كدهانة على أفضل وجه، الأمر الذي جعل الكثيرين من حولي ينظرون لي نظرة احترام وإعجاب، وسمعت العديد من عبارات الإطراء عن الدقة والجمالية في عملي، وهذا أمر جعلني أشعر بالثقة والفخر بنفسي”.
نظرة المجتمع لهن، وكيفية تعاملهن معها
نظرة الاستهجان والرفض لعمل أم أسامة كسائقة أجرة هو ما لمسته بداية عملها من قبل مجتمعها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، وصار الأمر اعتياداً ومقبولاً بنسبة أكبر.
تقول أم أسامة “وجدت الكثير من الأشخاص غير المؤيدين لعملي، خاصّةً أنّه لا يوجد نساء يعملن به، ويحتاج للذهاب إلى مدن وقرى والاختلاط برجال غرباء، وذلك يبدو غريب نوع ما عن مجتمعنا” وتضيف “بالبداية أثرت تلك النظرة غير المقبولة لعملي علي وعلى أفراد عائلتي الذين طالبوني بترك العمل، ولكن مع الوقت اعتدت على ذلك وأصبحت أرى أنّ المجتمع سيتقبل عملي مع مرور الوقت، وهو ما حصل فعلياً لاحقاً”.
ولم تكترث أم محمد لنقد محيطها حولها لعملها كسائقة في البداية، فحاجتها المادية كانت أكبر من أي انتقاد، وهي اليوم تجد أن المجتمع تقبل عملها، وأبعد من ذلك يشجعها ويساعدها، وعن هذا تتحدث “يؤيد عملي اليوم الكثير ومن كلا الجنسين، وهناك العديد من السائقين أصبحوا يتواصلون معي من موقف السيارات في مركز المدينة، ويطلبون مني الحضور لتوصيل بعض الزبائن من النساء والفتيات اللواتي يطلبن ذلك، يوجد هناك بعض الأشخاص الذين ينظرون لعملي نظرة سلبية فقط لكوني امرأة، ولكن بشكل عام ذلك لم يعد يهمني، لأن مصلحة عائلتي فوق كل المواقف والسلبيات”.
هل سيؤدي تغير الأدوار الجندريّة إلى كسر الصورة النمطية عن دور ووظيفة المرأة؟
يؤكد مدير تجمع تربوي سابق في محافظة درعا على أهمية عمل المرأة في السلم وفي ظروف الحرب، معتبراً عملها حالة صحية في المجتمع، فيقول لتجمع أحرار حوران “عمل المرأة مهم جداً وهو حالة صحية للمجتمع، وقد ساهم عملها في ظروف الحرب في تحسين الوضع الاقتصادي للكثير من العائلات في ظل غياب المعيل وهجرة الشباب”.
ويقر (س، المصري)، أحد وجهاء العشائر في ريف درعا الشرقي، بالنتيجة الحتمية لعمل النساء في مهن مخصصة للرجال بعد ما ألمّ بالبلد من تدهور اقتصادي، وهو يعترف بأنّ عملهن ساعد في تباطؤ تدهور الاقتصاد، ولكنّه من جهة ثانية لا يشجع على عمل النساء أيام السلم في مهن غير نمطية وذلك بحسب وصفه “لا أشجع على عمل النساء في مهن مخصصة للرجال أيام الرخاء وانتعاش الاقتصاد وتوفر الأيادي العاملة من الشباب، لأن هذا العمل يفوق طاقتهن البدنية وسيؤدي إلى نتائج وآثار اجتماعية سلبية”.
يبدو أنّ مسألة قبول عمل المرأة وخاصة في مهن مخصصة للرجال ليست محسومة بعد، وهذا ما تؤكد عليه (م، الزعبي)، خريجة إرشاد نفسي، وعملت سابقًا كمديرة مركز في إحدى المنظمات التي كانت تقدم تدريبات لرفع قدرات ومهارات النساء في ريف درعا الغربي، والتي توضح لتجمع أحرار حوران أنّ “الآراء تتباين وتختلف حول المرأة التي تعمل بشكل عام وحول المرأة التي تمتهن مهنة تعد مخصصة بشكل خاص، بإمكاننا القول إن ذلك يعتبر مسألة نسبية بالنسبة لمجتمع أصيل يحافظ على عاداته وتقاليده فهناك من يتقبل عمل المرأة بكل أشكاله حتى وإن كان عمل مخصصا للرجال فقط، بل ويقف إلى جانبها ويتعاطف معها كونها غير معتادة على ذلك، في حين أنّ هناك البعض الآخر من المجتمع ذاته من يتخذ موقف سلبي تجاه تلك المرأة حتى لو كانت معيلة لعائلة كاملة تضم عدد من الأطفال، ويطالب بمكوثها بالبيت لتعيش على الصدقات التي يقدمها الآخرون، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع”.
لاتزال الطريق طويلة أمام النساء السوريات من أجل تحقيق العدالة الجندريّة في المجتمع، إلا أنّهن يخطين نحوها خطاً حثيثة، فقد بدأت تتشكل لدى النساء السوريات بعد الحرب قناعات جديدة، وهن يكتسبن يوماً بعد يوم مهارات وقدرات تؤهلهن لخوض معارك التغيير التي ستفضي إلى الوصول لثقافة مجتمعية جديدة تلغي الدور النمطي للمرأة في مجتمعاتنا.
أنجز هذا التقرير بدعم من منظمة النساء الآن.