الانتهاكات بحق النساء في سوريا.. أمثلة من محافظة درعا
تجمع أحرار حوران – وردة الياسين
يبين التقرير السنوي العاشر الصادر في 25 تشرين الثاني/أكتوبر 2021 عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بأن واقع النساء في سوريا في عنف متصاعد وانتهاكات متواصلة منذ بداية الحراك الشعبي في سوريا عام 2011. وبحسب التقرير فإن النساء تعرضن في كثير من الأحيان للانتهاكات نظراً لدورهن ونشاطهن في مختلف المجالات في التظاهرات والأنشطة السياسية والإنسانية والإعلامية، كما كنّ متأثرات من تداعيات الانتهاكات التي طالت المجتمع السوري ككل.
ويعد القتل والاعتقال من قبل كافة أطراف النزاع في سوريا من أبرز الانتهاكات التي مورست بحق النساء، كما ارتفعت نسبة الانتهاكات المبنية على النوع الاجتماعي (جرائم شرف، زواج قاصرات، زواج قسري، استغلال واعتداء جنسي….) خلال الحرب، نتيجة لتردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغياب سلطة القانون والنزوح والتهجير وفوضى انتشار السلاح.
تواصلنا مع بعض النساء من محافظة درعا جنوب سوريا، ممن تعرضنّ لانتهاكات مختلفة، في محاولة لرصد طبيعة هذه الانتهاكات، الجهات التي قامت بممارستها، وما ترتب على تلك النساء من آثار نفسية واجتماعية. ونشير إلى أن الوقائع والتواريخ حقيقة ولكن أسماء النساء مستعارة حفاظاً على خصوصيتهن وأمنهن وسلامتهن.
الرصاص والمعارك والقصف قتلت العديد من النساء
“كل ما فعلته هو فقط، أطلت برأسها من النافذة مدة ثواني معدودة، لتفارقنا بعدها إلى الأبد” هكذا بدأت حديثها معنا والدة صباح. وصباح في الـ (25) من عمرها، أم لثلاثة أطفال، من حي درعا البلد، قتلت في نهايات عام 2011 نتيجة الرصاص الطائش الذي كان يطلقه أمن وجيش النظام على إحدى المظاهرات في حي درعا البلد.
وتقول والدة صباح: ” لا تغادر مخيلتي صورتها عندما اخترقت الرصاصة منتصف رأسها وسقطت على الأرض دون حراك. أتألم كثيرا على فراقها، ولكن ما يؤلمني أكثر بأنها قتلت بلا ذنب، ويشتد ألمي عندما أدرك بأنني لن أعرف قاتلها ولن أقدر على محاسبته يوماً ما”.
سجّل الرصاص الطائش في المظاهرات والمعارك مقتل العديد من النساء، ولكن القصف الجويّ والبريّ من قبل النظام وحليفه الروسي على القرى والبلدات التي خرجت عن سيطرته، نال الحصة الأكبر في مقتل النساء، وفي حالات لم تقتل النساء بالقصف وحدهن بل مع عائلاتهن وأطفالهن أجنتهن.
كانت نهلة (31) عاماً حاملاً في شهرها التاسع، في زيارة لأهلها عندما احتدمت المعارك بين قوات النظام وفصائل المعارضة للسيطرة على مشفى جاسم الوطني في ريف درعا الغربي ربيع 2014. والتي انتهت بسيطرة فصائل المعارضة على المشفى، وانتهت معها حياة نهلة وجنينها.
تخبرنا إحدى جارات نهلة: ” كالعادة ينتقم النظام بسبب خسارته من الأهالي. كان الوقت عصراً عندما ضرب صاروخ فراغي منزل أهل نهلة، صاروخ شديد الانفجار تكفل بأن يردم المنزل بأكمله، ويصرع نهلة حتى الموت ويلقي بجنينها الذي بطنها من شدة الضغط على أحد أسطح الجيران، ويرمي أختها مصابة جريحة تحت أحد الأشجار”. وتضيف: ” تكرر قتل الأجنة في هذه الحرب، فهناك في كل مدينة او بلدة مشهد مريع لقتل الاجنة، حتى أصبح الأمر وكأنه من الطبيعي أن تجد بعد كل قصف جنين ميت ملقى في الشارع أو في الحديقة أو على أحد الأسطح”.
الاعتقال والاخفاء القسري من أشد الانتهاكات بحق النساء
ظلّت راما تستيقظ من نومها مذعورة مدة أشهر طويلة وتبدأ بالبكاء، والصراخ بأعلى صوتها قائلة: “أبعدها عني أرجوك ستبلعني أفعى”. هكذا وصفت لنا زينب حالة الاضطراب النفسي الذي عانته صديقتها راما وذلك بعد أن خرجت راما من المعتقل عام 2013 وتحكي زينب: ” اعتقلت راما على أحد حواجز النظام عندما كانت ذاهبة لزيارة أحد أقاربها في بلدة الصنمين. وعرف أهلها بعد بحث طويل وتواصل مع نافذين ومسؤولين في الأفرع الأمنية، بأن سبب اعتقال راما كان نتيجة تقرير كيدي يقول بأن راما كانت تقدم المساعدة للجيش الحر”.
كانت راما من بلدة الطيبة في ريف درعا الشرقي في الـ (21) من عمرها، مرحة، مفعمة بالحيوية والنشاط قبل اعتقالها، ولكنها بعد أن خرجت من المعتقل بعد سنة ونصف من اعتقالها، أصبحت ذابلة صامتة أغلب الأحيان. هكذا وصفتها لنا صديقتها زينب التي ذهبت مع راما ذات مرة إلى الطبيب في المشفى الميداني بناء على طلب راما، وتحكي لنا زينب: “دون علم أحد، ذهبت مع راما إلى المشفى الميداني بعد إلحاح طويل منها، وكانت الصدمة عندما طلبت راما من الطبيب أن يصف لها أدوية مهدئة ومسكنة، فهي تحلم كل ليلة بأفعى ضخمة تتأهب لابتلاعها” وتتابع: “عرفت لاحقاً من راما أنه وأثناء فترة اعتقالها في المنفردة كان السجان يزج لها بأفعى ويتركها معها فترة من الزمن في المنفردة، الأمر الذي يتسبب في فقدان وعي راما”.
“لم يتوقف الأمر على معاناة راما من الكوابيس والاضطرابات النفسية وتناولها لكميات كبيرة من الحبوب المهدئة بعد خروجها من الاعتقال، بل كان أبشع ما كانت تعانيه راما وبحسب ما أخبرتني ذات مرة، هو نظرات أهل البلدة لها وتهامسهم فيما بينهم بأن أي فتاة تدخل المعتقل لابد وأن تكون قد اغتصبت”.
بنظر أم عبد الله تبدو راما محظوظة جداً إذ أنها نجت من الاعتقال، فأم عبد الله التي امتنعت بداية وبشدة عن الحديث معنا عن ابنتيها المعتقلتين منذ عام 2013، ماتزال تجلس كل يوم أمام منزلها في بلدة انخل في ريف درعا الغربي، وتنتظر قدوم ابنتيها. تقول أم عبد الله: ” أتمنى لو اعتقلت أنا بدل ابنتي، كان ذنبي أنا عندما سمحت لهما بالذهاب إلى مدينة درعا في صيف 2013 “.
لا تعرف أم عبد الله مكان ابنتيها وحتى اللحظة. كل ما علمته فقط من سائق الباص الذي كان يقل ابنتيها بأن أحد عناصر الحاجز طلب منهما النزول من الباص ليختفيا بعد ذلك كلياً.
هذا كل ما استطعنا الحصول عليه من أم عبد الله عن قصة اعتقال ابنتيها، فهي ترفض تماماً إعطاء أيّ تفاصيل، وبحسب الجيران والمحيطين بها تهذي أم عبد الله في لحظات كثيرة، وتخترع رواية تقول بأن ابنتيها خرجتا من المعتقل وذهبتا إلى لبنان مباشرة، ولا أحد يعلم سبب اختلاقها لهذه الرواية، ربما وبحسب ما قالته لنا إحدى جاراتها، أن أم عبد الله تتمنى حدوث سيناريو كهذا، أو أنها باتت تستاء من تحليلات الناس والأقارب وتخميناتهم وتوقعاتهم لما يقد يحدث لابنتيها في المعتقل.
ليس النظام وحده من يقوم بالانتهاكات
تتحدث كل مدينة نوى عن حادثة قتل ابتسام (32) عاما على يد عناصر جبهة النصرة عام 2016. فابتسام وجدت جثة هامدة تحت إحدى أشجار الزيتون من قبل أطفال كانوا يلعبون صباحاً، وتبنى عناصر جبهة النصرة عملية قتلها بحجة مشاهدتها من قبل أحد الأشخاص وهي تتحدث مع أحد عناصر حواجز النظام المتواجدين على مدخل مدينة درعا، وبالتالي اتهامها بتسريب أخبار ومعلومات لمخابرات وأمن النظام.
وشددت إحدى السيدات والتي كانت مقربة من ابتسام، بأن ابتسام ليس لها أي صلة بقوات وأمن النظام، وتقول: ” لم يكن هناك أحد يأخذ بثأر ابتسام، فقد مات حقها معها، ولم يعطها أحد فرصة الدفاع عن نفسها ولو للحظة، ولم يستطع ذويها المطالبة بحقها لأنهم يعلمون أن تلك الفصائل لم تكن تعطي أيّ فرصة للحديث أو التفاوض خاصة في جريمة كتلك، فمن المؤكد إذا طالب أحد بحقها سيصبح الجميع متهمين مثلها”.
سمر (42) عاماً صحفية وإعلامية من درعا البلد، رصدت كاميرتها العديد من المعارك وأغلب القصف والقتل الذي كانت تتسبب به طائرات النظام في حي درعا البلد، وكتبت عشرات المقالات عن الانتهاكات والجرائم التي كانت تمارس من قبل كل أطراف النزاع.
تعرضت هي وأهلها للتهديد بالقتل من قبل النظام مرات عدة، واتهمتها الجماعات والفصائل الإسلامية المتطرفة بالكفر والإلحاد وأرسلت لها عشرات التهديدات بالقتل والاعتقال، ليس لأنها تكتب المقالات عن انتهاكاتهم وحسب، بل لأنها ترتدي بنطال جينز ضيق وقميص لا يكاد يغطي وركها، تقول سمر: “كانت تصلني تهديدات مباشرة وأخرى غير مباشرة من الجماعات الإسلامية المتطرفة، تارة يتهمونني بالكفر وتارة يتهمونني بالعلمانية والإلحاد، وذات مرة وصلتني رسالة على الواتساب من رقم لا أعرفه، تقول، إلّزمي بيتك أيتها الكافرة، واستتري لعل الله يغفر لك ذنبك، وإن لم تفعلي فالقتل هو مصيرك”
العنف المبني على النوع الاجتماعي
لعلّ سلسلة العنف المبني على النوع الاجتماعي هي الأكثر استمرارية والأطول والأكثر تضميناً لأنواع مختلفة من الانتهاكات التي تمارس على النساء، فهي تحتوي على حلقات طويلة من القتل باسم الشرف، العنف الأسري، الزواج القسري…. وغيرها). قد لا نتمكن من رصد كل أنواع الانتهاكات الممارسة بناء على النوع الاجتماعي هنا، ولكننا نورد بعضا من قصص النساء اللواتي تعرضن لأوجه من العنف المبني على النوع الاجتماعي.
احتلت قصة مقتل عبير (25) عاما في عام 2021 مساحة واسعة من أحاديث نساء ورجال بلدة العالية في ريف درعا الغربي، وعنونتها إحدى النساء اللواتي أخبرتنا عن قصة مقتل عبير بـ “مناسف الدم في حوران”.
تقول السيدة: ” عادت عبير إلى منزل أهلها بعد أن تطلّقت من زوجها، لتسكن مع زوجة والدها الذي كان مسافراً للعمل في دولة الإمارات. كانت المشاكل والخلافات لا تنتهي بين عبير وزوجة والدها، التي وجهت اتهامات لعبير بوجود علاقة سرية بينها وبين أحد أبناء الجيران، ولاحقاً قامت زوجة الأب بإخبار أعمام البنت وابنائهم بحجة أن والدها خارج البلاد وليس لديها اخوة، بأنّ عبير تجمعها علاقة حميمية بشاب من الجيران، ليقدم الأعمام على ضرب عبير وتقييدها وسجنها في الحمام مع جثة قطة ميتة، ريثما يتم التوصل إلى حل مع والدها المقيم خارج البلاد”.
“يسأل عم البنت أحد المحامين في البلدة عن عقوبة قتل البنت بداعي جريمة الشرف، فيطمئنه المحامي بدوره بأنه لا عواقب لها، والعقوبة هنا تكون بما يسمى بالحق العام ولا يتجاوز السجن ستة أشهر، ليقرروا بعد معرفة ذلك استدعاء والد الفتاة من دولة الإمارات لقتل ابنته بحجة حماية شرفهم” تحكي السيدة.
وتتابع: “ينحر الأب ابنته بالسكين وسط جمع من أعمامها وأبنائهم، ويتركونها جثة هامدة في غرفة مظلمة، وبدأوا بعدها بتناول مناسف الطعام التي أعدها أحد الأعمام احتفالاً بغسل عارهم وشرفهم”.
قتلت الإشاعات غير المبنية على أيّ أساس من الصحة عبير بدم بارد كما قتلت جيهان (36) عاماً من ريف درعا الشرقي.
هربت جيهان من منزل زوجها في عام 2014 فارة من عنف جسدي ولفظي ونفسي مارسه عليها زوجها طيلة عشرة سنوات، هكذا بدأت صديقة جيهان الحكاية، وتقول: ” لم تهرب جيهان من بيتها فجراً إلّا لأنها لم تعد تحتمل كمية العنف الهائل الذي كانت تتعرض له من قبل زوجها، حيث أخبرت جيهان والدها ووالدتها مراراً بوضعها ولكن الرد الذي كانت تتلقاه من قبلهما هو أنه يجب عليك الصبر والتّحمل من أجل أطفالك”.
“وبدأت الإشاعات تسري في كل القرية بعد هروب جيهان بأنها هربت مع رجل آخر، وفي أحياناً كثيرة كنا نسمع إشاعات بأن سبب هروب جيهان شاب متطوع في جيش النظام أغواها وأغراها” تتابع صديقتها.
لم تحتمل جيهان مشقة بعدها عن أطفالها ولا كمية الاتهامات التي طالتها، فآثرت العودة إلى القرية لتثبت للجميع براءتها من التهم الباطلة، وطبعاً كانت عودتها بعد جولات من التفاوض بين أهلها وأهل زوجها الذي قبل برجوعها للمنزل بحجة حاجة أطفالها لها كما أخبرتنا أختها.
“خضعت جيهان وبعد عودتها لمنزل زوجها لعلاج نفسي، وعانت من الاضطرابات النفسية والاكتئاب مدة سنتين” تقول صديقة جيهان.
ولكن ما حدث بعد ذلك أمر مفجع، تقول عنه صديقة جيهان: ” استيقظت على خبر موت جيهان، قال أهلها وزوجها بأن جيهان ماتت لأنها كانت مريضة، ولكنني علمت لاحقاً بأنها انتحرت، حيث تناولت علب مختلفة من الدواء دفعة واحدة ليلة وفاتها. آثرت جيهان قتل نفسها على احتمال العنف وقهر مجتمع لا يرحم”.
اللجوء والنزوح انتهاكا معظم حقوق النساء
اخترنا حالة نغم ولميس كمثال عن حرمانهما من طفولتهما، حقهما في التعليم، واختيار الحياة التي يرغبانها، حيث اضطرت والدتها الأرملة تزويجهما في سن مبكرة لترتاح من ضغط وضعها الاقتصادي. تحدثنا والدتهما: “بعد مقتل زوجي في إحدى مظاهرات داريا عام 2012، وتحول داريا إلى منطقة لا تعاش، وبعد رحلة من النزوح تنقلت فيها في أماكن مختلفة في مدينة دمشق، رحلة عايشت فيها الفقر والحاجة كل يوم والوحدة والخوف دون معيل أو سند، قررت في 2014 الذهاب إلى بلدة نصيب في ريف درعا الشرقي حيث يقطن أخي المتزوج من سيدة من البلدة” وتتابع: ” سكنت أنا وولدي وابنتي وأخي وزوجته وأولاده السبعة في غرفتين صغيرتين، لم يكن لدي مال أو عمل، وكان دخل أخي بالكاد يغطي مصاريف عائلته، فما كان مني إلا أن وافقت على تزويج ابنتي نغم (16) عاماً من شاب يكبرها بعشر سنوات من قرى حوض اليرموك، وبعدها بثلاثة أشهر زوجت ابنتي لميس (14) عاماً لشاب آخر من بلدة نصيب”.
“أشعر بالاختناق والضيق على ابنتي، خاصة على ابنتي نغم والتي التحق زوجها لاحقاً بفصيل داعش) ولم أرها منذ مدة طويلة، أنا المذنبة..” وهنا تجهش والدة نغم بالبكاء وتعتذر عن متابعة الحديث.
تتطلب حماية النساء في ظل استمرار الانتهاكات وتصاعدها، اتخاذ إجراءات حاسمة ومحاسبة كل الأطراف المسؤولة عن ارتكاب الانتهاكات، ووضعهم تحت دائرة المسائلة وعدم الإفلات من العقاب، كما تتطلب المطالبة بوضع قوانين منصفة بحق المرأة والعمل جديا على إلغاء القوانين التمييزية بحقها، وتضمين مشاركتها الاقتصادية والسياسية على مستوى مواقع صنع القرار، بالإضافة لذلك إيجاد المساحات الآمنة للنساء، وتمكينهن ليكن قوة فاعلة وأساسية في المجتمع وفي قيادة عمليات التنمية وإحلال السلام.
أنجز هذا التقرير بدعم من منظمة النساء الآن.