تجمع أحرار حوران – سمير السعدي
“ما بدي أروح مثل ما راح أبوي، سنين وما في ولا خبر عنه” لهذا السبب فضّل وليد عدم الكشف عن اسمه خلال حديثنا معه عبر تطبيق واتساب من هنا بدأت قصة وليد، الذي يشعرك خلال الحديث معه وكأنك أمام رجل تجاوز الأربعين من عمره، يشدّك حديثه، ووصفه الدقيق للواقع، تنصت بإمعان لكلماته، المفاجأة أنه لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، لكن ظروف الحياة ومآسي الحرب أجبرته أن يكبر سنوات، وأن يتجاوز طفولته مرغماً.
الخسارة خلّفت خسائر!
خلال عملية البحث عن معاناة الطلاب في المرحلة الإعدادية، تعرفنا على الذي ترك مقاعد الدراسة قبل أربع سنوات، تحدّث وليد عن معاناته التي بدأت بعد أن فقد والده، في عملية اقتحام قوات الحكومة السوريّة لمدينة نوى في ريف درعا الغربي، خلال المداهمة أصيب والده برصاصة، واعُتقل بالرغم من إصابته تلك، لم يكن وليد حينها قد تجاوز السابعة من عمره، كان قد دخل المدرسة قبل أشهر قليلة فقط.
“ما شفت شو صار برا البيت وما بقدر أوصف المشهد، كنتُ مع إخوتي في الداخل، وكنتُ أظن أنّه سيعود بعد أيام، ما شعرت بوقتها أنّ اعتقال والدي هو بداية مأساتنا، مرت السنة الأولى ولا أخبار عن والدي بعد، اضطُررنا للخروج من المدينة بسبب العمليات العسكريّة، ونزحنا إلى قرية مجاورة، تابعت تعليمي الابتدائي فيها سنتين، قبل عودتنا إلى نوى، حيث أكملتُ المرحلة الابتدائيّة، ودخلتُ المدرسة الإعداديّة أواخر العام 2017، أنهيتُ الصف السابع، وبعدها تركتُ المدرسة”.
شرحت لنا أم وليد باستفاضة أسباب ترك ابنها وأقرانه لمقاعد الدراسة والتّوجه إلى سوق العمل في سنٍ مبكرة جداً، فبعد اختفاء زوجها بأشهر بدأت العائلة المؤلفة من أربعة أطفال ووالدتهم بتلقي مساعدات ماديّة من إحدى المنظمات المحليّة، التي تُعنى بمساعدة الأرامل والأيتام، ظلّت تلك المساعدات تصل بشكل شهري حتى منتصف العام 2017.
أبلغت المنظمة العائلة بانقطاع الدّعم المقدّم لها من الجهة المانحة، وشطب اسم العائلة من قوائم المنظمة، على أمل أن تعود المساعدة في حال عودة الدّعم، لكن شيئاً من تلك الوعود لم يتحقق، وازدادت أوضاع العائلة الماديّة سوءاً بعد ثلاثة أشهر من انقطاع المساعدة، لا مدّخرات لديها، وأنفقوا كل ما لديهم خلال سنوات النزوح، لا خيارات إذاً سوى أن يترك وليد المدرسة، ليساعد والدته في حمل أعباء اختيه وشقيقه الأصغر، كأفضل الحلول لضمان استمرار أشقائه في مدارسهم على حسابه هو.
خسارة العائلة بدأت بفقدان المعيل وتوالت الخسائر كما تصف أم وليد، جزء من المنزل تهدّم خلال سنوات الحرب، ولم تتمكن العائلة من إصلاح الجزء المتضرر، بسبب غلاء المواد والأوضاع الاقتصاديّة السيّئة، الأمر الذي اضطرّهم للسكن في الجزء المتبقي والمؤلف من غرفتين ومطبخ صغير، تتقاسم البنات مع والدتهم إحدى الغرف والثانية يعيش فيها وليد مع شقيقه.
الخسارة الثانية التي أثّرت في العائلة كانت ترك وليد للمدرسة بالرغم من تفوقه الدراسيّ في مرحلة التعليم الابتدائيّة والصف الأول الإعداديّ، لكن وبحسب والدته اضطرت العائلة اختيار الأقل ضرراً، كانت الخيارات محدودة إما أن تترك شقيقتيه المدرسة، وتوفير نفقاتهم ليتابع وليد دراسته.
تقول أم وليد “أن نجبر طفلتين على ترك الدراسة أمر صعب، بينما كان الحل أن يترك وليد المدرسة، فهو رب الأسرة، وقادر على المساعدة في تأمين احتياجات إخوانه، ثم إن وليد رجل لديه خيارات في المستقبل، أما شقيقتيه لا نعرف ماذا تخبئ لهن الحياة، ستكون الشهادة ملاذهما الوحيد”.
تعدّدت المهن والنتيجة واحدة
عمل وليد بعد ترك المدرسة في مهنٍ مختلفة، اختلفت بحسب الفصول، في الصيف كان يعمل في الزراعة خلال موسم الحصاد الذي يستمر لثلاثة أشهر، في حين كان يضطر للعمل في أعمال البناء وصيانة المنازل المتضررة من القصف في الشّتاء.
يصف وليد العمل في الزّراعة بالأعمال الشّاقة “نضطر للعمل في ظروف سيئة، حيث أنّ درجة الحرارة في الصيف تتجاوز 35 درجة، نعمل من أربع إلى خمس ساعات صباحاً ومثلها في المساء، تبدأ الرحلة إلى الحقول القريبة من المدينة في السّاعة الثالثة صباحاً، ويبدأ عملنا عند السّاعة الثالثة والنصف إلى السّاعة الثامنة صباحاً، آخذ قسطاً من الراحة حتى السّاعة الثالثة بعد الظهر قبل أن أعود إلى العمل في المساء، بعض الأحيان ونتيجة للتعب أعمل إما صباحاً أو مساءً”.
وعلى الرغم من الظروف السيئة وانعدام الحد الأدنى من الحماية، فمثل هذه الأعمال لا تعرف التأمين الصحيّ والاجتماعيّ، الذي يضمن للعامل جزءاً من حقوقه، وجميع العاملين معرَضين لأمراض، وبعض المخاطر الطبيعية الناجمة عن لدغة العقارب أو الأفاعي، ولا يوجد أي تعويض ماديّ للعامل في مثل هذه الحالات بحسب أحد المزارعين، وتبقى أجور العاملين متدنية مقارنة بما سبق من مخاطر قد تعترض عملهم، إذ تتراوح أجورهم بين 1000 و1100 ليرة سوريّة لساعة العمل الواحدة، ويصل دخل العامل الذي يعمل صباحاً ومساء إلى 11000 ليرة (أقل من ثلاثة دولارات).
يُشَبّه وليد دخله من هذه المهن بـ”البحصة التي تسند الجرة” إذ لا يكفي عمله سوى لسد رمق أفراد عائلته وتوفير الاحتياجات الضروريّة، في حين تضطر العائلة لشراء حاجيات أخرى بالدَّين.
وتبقى هذه المهن بالرغم من قلة الدّخل الذي توفره أفضل الممكن في هذه الظروف لكثير من الطلّاب الذين تركوا مدارسهم، أو أولئك الذين اضطروا للعمل الموسمي خلال فترة عطلة نهاية السنة.
وسط هذه الظروف ظهرت مهن جديدة تسلّلت إلى هذه الفئة العمرية داخل أسوار المدارس وخارجها دفعت بعض الأهالي والمربين لدقِ ناقوس الخطر، بعد الكشف عن مجموعة مكوّنة من سبعة طلاب لا تتجاوز أعمارهم 14 عامًا، بينهم طالبتين في بلدة معربة بريف درعا الشرقي كانت تقوم بترويج الحشيش والمواد المخدّرة داخل المدرسة، حيث أَلقى أحد المدرسين القبض عليهم وأبلغ مجموعة محليّة مسؤولة عن أمن البلدة عن الحادثة، ليتم بعدها إبلاغ أهالي الطلاب بهدف توعية أبناءهم من خطورة مثل هذه الأعمال.
استغلّ تجار المخدرات الحاجة الماديّة للسكان وبدأت عمليات تجنيد الأطفال ضمن صفوف تلك المجموعات، واستُخدِمَ الأطفال في عمليات النقل والتّرويج، ونتج عن هذه العمليات مقتل الطفل باسل الرمثان (15 عامًا) في 22 أيار/مايو الفائت، خلال محاولته إدخال المخدرات إلى الأردن برفقة مجموعة من الأشخاص قُتل معظمهم خلال العملية.
تراجع عمل المنظمات زاد الطين بلّة
تُشير الاحصائيات الحكوميّة الرسميّة إلى ازدياد أعداد الطلاب المتسربين من المدارس خلال السنوات القليلة الماضية، وبحسب تصريحات مدير مركز القياس والتقويم التربويّ في وزارة التربية، رمضان درويش، لإحدى الصحف المقربة من الحكومة السورية فإن عدد الطلاب المتسربين تجاوز مليون ومئة ألف طالب، وبيّن درويش خلال تصريحاته أنّ النّسبة الأكبر من المتسربين هم من اليافعين من طلاب المرحلتين الإعداديّة والثانويّة، كاشفاً عن صعوبات تواجهها الوزارة في إجراء إحصاء دقيق لأعداد الطلاب الذين تركوا المدارس.
وبحسب بيان مشترك للمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانيّة للأزمة السوريّة، مهند هادي، والمدير الإقليمي لـ “يونيسف” للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تيد شيبان، يعاني نظام التعليم في سوريا من إرهاق كبير، ونقص في التمويل، وهو نظام مُجزّئ وغير قادر على توفير خدمات آمنة وعادلة ومستدامة لملايين الأطفال.
من جانبه قال مسؤول في مديرية التربية في محافظة درعا، فضّل عدم الكشف عن اسمه، لتجمع أحرار حوران إنّ أعداد المتسربين من المدارس في مرحلة التعليم الأساسيّ تجاوز 5800 طالب وطالبة، تضاعف الرقم أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث تم تسجيل 1780 طالب وطالبة تسربوا من المدارس عام 2022.
وعن الأسباب التي تقف وراء تسرب الطلاب قال “هناك أسباب اقتصادية يعاني منها السكان، حيث أجبرت هذه الظروف بعض طلاب المرحلة المتوسطة على ترك المدرسة لمساعدة ذويهم، إضافة لارتفاع أسعار القرطاسية واللباس المدرسيّ، إذ تصل تكلفة اللباس والقرطاسية لطفل واحد إلى 100 ألف ليرة سورية، ما يعادل 70 في المائة من وسطي دخل الأسرة، وسط عجز معظم العائلات عن تأمين هذه المتطلبات، خاصة العائلات التي لديها أكثر من طالب في المرحلة ذاتها”.
“كما يعاني القطاع التعليميّ من نقص في الكوادر، خاصّة مُدرِسي المواد الاختصاصيّة كالرياضيات واللغات الأجنبية، هذا النقص أدى إلى تراجع سويّة التعليم، وزاد من عدد الطلاب المتسربين، كذلك تعاني مدارس المحافظة من نقص حاد في تأمين وسائل التدفئة خلال فصل الشتاء، وهذا النقص كان سبباً في حالة من التململ عند الطلاب، وتسبب في ترك بعضهم للمدرسة”، وفق المسؤول في مديرية التربية.
ومن الأسباب التي ساهمت في زيادة أعداد الطلاب المتسربين تراجع دور منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التي كانت تعمل في المنطقة قبل سيطرة قوات الحكومة السوريّة عليها في العام 2018، كانت هذه الجمعيات تقدم مساعدات ماديّة للأسر الفقيرة وأخرى عينيّة لطلاب المدارس من ضمنها قرطاسية كاملة.
رابطة أهل حوران التي تأسست عام 2012 في المنطقة، وتعمل اليوم في مناطق الشمال السوري تحت اسم “مؤسسة حوران الإنسانيّة” أوقفت المنظمة جميع أنشطتها في المنطقة الجنوبيّة من سوريا، نتيجة الصعوبات التي واجهت من بقي من كوادرها في المنطقة، من ملاحقات أمنية ورقابة مستمرة جعلت من تنفيذ مشاريع تدعم الأهالي هناك أمراً غاية في الصعوبة على الرغم من حاجة السكان الملّحة، بحسب المسؤول الإعلاميّ للمؤسسة، حسن البوحسن.
وكانت “مؤسسة حوران الإنسانيّة” قد نفذت آخر مشاريعها في المنطقة خلال الحملة العسكريّة للحكومة السورية على درعا البلد منتصف العام 2021 وواجهت صعوبة في توثيق النشاط حينها.
وبحسب ما ذكر البوحسن “نشطت المنظمة في الأعمال الإنسانيّة قبل 2018 وساهمت في ترميم وإصلاح 45 مدرسة، وتقديم حقائب مدرسيّة فيها جميع المستلزمات الأساسيّة للطلاب، وأسست مراكز للدعم النفسي في أرياف المحافظة الغربيّة والشرقيّة، كما دعمت مدارس خاصة للأيتام الذين فقدوا آبائهم خلال سنوات الحرب”.
وأضاف “تنفيذ تلك المشاريع كان سهلاً قبل سيطرة الحكومة السوريّة، وكانت المنظمة تتلقى دعماً من منظمات دوليّة، بالإضافة لدعم الأفراد، لكن مع سيطرة الحكومة وتراجع الدعم المخصص للمنطقة، والمخاطر الأمنيّة، نقلت المؤسسة أنشطتها إلى مناطق الشمال السوريّ، وبدأت بتنفيذ مشاريع مشابهة للمهجّرين من مناطق سوريا المختلفة والمتواجدين في مناطق الشمال خارج سيطرة الحكومة”.
وبحسب المسؤول الإعلاميّ للمؤسسة فإن الصعوبات التي واجهت “مؤسسة حوران الإنسانيّة” في الجنوب السوريّ بعد سيطرة الحكومة السوريّة، ذاتها التي واجهت بقيّة المنظمات التي كانت تعمل في المنطقة، الأمر الذي أجبر تلك المنظمات على إيقاف جميع أنشطتها وإنهاء العقود التي كانت قد أبرمتها مع شركاء محليّين ودوليّين.
لا أريد الآخرين مثلي
“ما بدي يكون باقي الأطفال مثلي وبتمنى يكملوا دراستهم، ويلاقوا حدا يهتم فيهم ويساعدهم على هذا الشي” بهذه الكلمات ختم وليد حديثه، آملاً أن تعطي المنظمات المحليّة والدوليّة مزيداً من الاهتمام لظاهرة تسرب الأطفال من المدارس ومعالجة الأسباب للحد منها.
أنتج هذا العمل بشراكة فاعلة مع مؤسسة حوران الإنسانية وبدعمٍ ماليّ من سيدا، لكنه لا يعكس بالضرورة آراء سيدا، ويتحمل كل من تجمع أحرار حوران ومؤسسة حوران الإنسانية المسؤولية عما جاء فيه.