الاعتقال غيّب ابني الأول.. والهجرة سرقت الثاني!
بقلم: عماد البصيري
رغم انتهاء المعارك في الجنوب السوريّ بموجب اتفاق التسوية الذي تم في شهر تموز من عام 2018، والذي وضع حدّاً للعمليات العسكريّة في المنطقة، إلّا أن عمليات الاغتيال كانت قد ازدادت في درعا، وسط تكهّنات كبيرة عمّن يدعمها ويقف وراءها، لاسيّما أن بعض عمليات الاغتيال هذه طالت أشخاصاً كانوا يعملون قبل إجراء التسوية في صفوف الجيش الحر أو الهيئات الثوريّة، ورفضوا الانخراط في تشكيلات قوّات الأسد المُنتشرة في المنطقة كالفرقة الرابعة وشعبتي المخابرات العسكريّة والجويّة.
يعيش أهالي محافظة درعا في جنوب البلاد أوضاعاً إنسانيّة وأمنيّة سيّئة جداً منذ عام 2018، وممّا زاد الأمر سوءاً تلك الاعتقالات التي لا تكاد تتوقّف والتي بدورها تؤدّي الى هجرة العشرات بل المئات من أبناء المحافظة، بحثاً عن العيش بأمن وسلام.
خرج إلى الامتحان ولم يعد
أمّ قصي امرأة تبلغ من العمر أربعة وأربعين عاماً من مدينة الشيخ مسكين الواقعة في ريف درعا الأوسط، في منتصف عام 2012 قامت قوات النظام باعتقال ابنها قصي أثناء تقديمه لامتحانات الشهادة الثانويّة العامّة، تقول أمّ قصي: قامت دوريّة لقوات النظام باعتقال ابني قبل دخوله امتحانه الأخير امتحان اللغة العربية، لم نستطع أن نعرف إلى أين كانت وجهة الدوريّة التي اعتقلته، لا نعرف سوى أنّ باصين وسيارة هايلوكس مزوّدة برشّاش قامت باعتقال قصي وسط تجمّع كبير لطلاب الثانويّة أثناء استعداده لدخول مركز الامتحان، فيعلو صوت قصي صارخاً “مشان الله أتركوني أقدم الامتحان الأخير وبعدين أخذوني، لكن عناصر قوات النظام انهالت عليه بالضرب المُبرح حتى أُغمي عليه”.
تكتوي كثير من الأمّهات السوريّات بلوعة فراق أبنائهنّ الذين قضوا أجلهم في الثورة جرّاء اعتقال قوات النظام السوري لهم، أو الذين مازالوا معتقلين في سجونهم.
بدأت حياة مختلفة، حياة مليئة بالقلق بين الوحوش والظالمين، من فرع الى آخر بحثاً عن خبر يطمئن قلبي، ومن ضابط الى سمسار، دفعنا مبالغ مالية ضخمة تُقدّر ب 60 مليون ليرة سورية، بعد أن قمنا ببيع أراضينا الزراعيّة وممتلكاتنا الخاصّة لمعرفة مصير ابني المُغيّب قصريّاً، لكن دون جدوى.
قصف ودمار ونزوح
مع بداية عام 2016 تعرّض منزل أمّ قصي في مدينة الشيخ مسكين للقصف والدمار بشكل كامل من قبل قوّات النظام، ممّا أجبرهم على النزوح إلى مدينة داعل ومن ثمّ إلى مدينة نوى غربي محافظة درعا، استقرّت في المدينة مع زوجها وابنها صاحب السبعة عشر ربيعاً، إلى أن سيطرت قوّات النظام مدعومة بالطيران الروسيّ على محافظة درعا، لم تكتمل الفرحة التي بدأت ترتسم ملامُحها على الوجوه المنهَكة لأهالي مدينة نوى بعودتهم إلى منازلهم، ليلة يوم الأربعاء 18 تمّوز 2018، ليلة عصيبة عاشها الأهالي بعد تطمينات حصلوا عليها إبّان المفاوضات التي جرت بين نظام الأسد وفصائل الجيش الحر ووفود من الأهالي بضمانة روسيّة خلال الأيّام الأخيرة من حملته العسكريّة على المحافظة، حتى غدر النظام بهم وشهدت المدينة حينها ليلةً داميةً بآلة القصف الأسديّة التي خلّفت عشرات الشهداء والجرحى من أهالي مدينة نوى والنازحين إليها من مناطق أخرى من المحافظة.
الهجرة أفضل الخيارات
بقيت أمّ قصي في مدينة نوى مع زوجها وابنها ماجد، بعد عجزهم عن ترميم منزلهم المدمّر في مدينة الشيخ مسكين، كانت تسكن في منزل مؤلف من غرفتين تبرّع بهنّ شخص من أهالي المدينة لها ولعائلتها، حيث بقيت تعمل مع زوجها في بيع الألبان والأجبان، وكانت تقوم بشراء الحليب وبيع اللبن والجبن والسمن.
لم يغادر إلّا عدد قليل من أبناء الجنوب السوريّ في قوافل التهجير التي رعتها روسيا في شهر تمّوز من عام 2018، بعدما وضعت الشباب أمام خيارات صعبة جداً إمّا بالمغادرة أو البقاء لمستقبل مجهول، إذ قدمت اتفاقاً غير واضح الشروط وتسويةً لأوضاعهم ووعود بعدم ملاحقة المطلوبين منهم وأوهمتهم بحلّ سياسيّ قريب في سوريا، ليعيش الأهالي بعدها واقعاً مُغايراً لكلّ الوعود التي حصلوا عليها تحت سلطة قوّات النظام.
قرّرت أمّ قصي أن تجبر ابنها ماجد على الهجرة بعد ازدياد الوضع الأمنيّ سوءاً، نتيجة انتشار السلاح والمخدّرات في جميع مدن وقرى درعا، وبسبب الاعتقالات والاغتيالات التي لم تتوقّف أبداً والتي تقوم بها قوات النظام متمثّلة بفروعها كافّة، لتبدأ معاناة جديدة لأمّ قصي في رحلة ماجد إلى مناطق شمالي سوريا المحرّرة.
وصل ماجد إلى شمالي سوريا ثم وصل أخيراً إلى تركيا بعد رحلة طويلة استمرّت أربعة وأربعين يوماً من مدينة نوى إلى الأراضي التركيّة عبر طرق التهريب الخطرة كثيراً، انطلق ماجد من محافظة درعا في نهاية عام 2021، وبعد أن تجاوز عدّة حواجز لقوات النظام السوري وصل إلى مدينة نبّل والزهراء في ريف حلب، وبقي مُحتجزاً فيها خمسة عشر يوماً بسبب إغلاق الطريق المؤدّية إلى المناطق المحررة في شمالي سوريا، تعرّض للابتزاز الماليّ خلال وجوده بمدينة “نبّل” من قبل مليشيات التهريب التي تمتهن تجارة المخدّرات والأرواح في مناطقها عن طريق بيع الركاب إلى تجّار البشر والمهرّبين.
لا زال ماجد يتواجد على الحدود التركيّة اليونانيّة بعد فشله في عدّة محاولات من الوصول إلى اليونان من أجل مواصلة طريقه إلى إحدى الدّول الأوربيّة.
العفو الكاذب
العفو الذي أصدره رأس النظام السوريّ بشّار الأسد مطلع شهر أيّار الجاري، الذي جاء بعد أسبوع من نشر صحيفة الغارديان البريطانيّة مقاطع فيديو مروّعة تعود لعام 2013، التي تُظهر تصفية عشرات الأشخاص على أيدي عناصر من القوات الحكوميّة بحيّ التضامن في دمشق.
وبعد أن أعاد هذا “العفو” الأمل لآلاف السوريين الذين لا يعلمون شيئاً عن ذويهم المعتقلين في سجون النظام منذ سنوات، قلّب الأوجاع في أعماق قلوبهم مرّة أخرى ورسم في ثناياها غصّة من الذكريات التي يصعب طمسها ونسيانها.
خرجت أمّ قصي من منزلها وذهبت إلى أمام مجمّع درعا تحمل صورة ابنها في يديها وأملها بلقائه وشوقها إليه في نبضات قلبها المرتجفة، بينما ذهب زوجها حاملاً دفتر العائلة وصورة قصي إلى العاصمة دمشق للانتظار أمام جسر صيدنايا، وطال انتظار الوالدين لعدّة أيام دون فائدة تُذكر.
وأحيا العفو المزعوم آمال السوريين بلقاء قريب يجمعهم بأحبّائهم وأقربائهم، بعد أن أصبح أمراً شبه منسيّ في حساباتهم.
حرقة وترقّب تعيشهما الأمّ المكلومة التي لا تملك إلّا صور فلذّات كبدها تقلّبها وتقبّلها في انتظار أيّ بشرى سارّة تُنسيها ألم وكمد سنوات الفقد والحرمان لمن غيّبته السجون وبلاد الهجرة عنها، ويلها ابنها المعتقل والمغيّب قصراً دون معرفة مصيره تارةً، وويلها ابنها المهجّر ذاك الذي علق بين الحدود دون المعرفة إلى أين سينجو تارةً أخرى.
قصّة أمّ قصي، من مئات القصص التي تعاني من ويلاتها وأوجاعها الكثير من الأمّهات في ظلّ حرب النظام السوري على الأهالي في رزقهم وأبنائهم، ما زالت أمّ قصي وغيرها من الأمّهات تعيش على أمل أن تجتمع مع أبنائها مرّة أخرى في هذا العالم المظلم.