ثلاثية الفداء “المستقبل، التاريخ، النخوة”.. درعا
تجمع أحرار حوران – راشد الحوراني
كتب أحد الأصدقاء عندما حاول النظام والميليشيات الإيرانية اقتحام درعا البلد، في صيف 2021، عن درعا: “كنت ولا أزال أتفاخر بدرعا، أُحدث عنها كل الباحثين الغربيين الذين ألتقي بهم، أقول لهم -مُحاولًا تبسيط المشهد فيها- إنها شبيهة بحالة إيرلندا الشمالية، هي تحت تسوية معينة، لكن قلوب وعقول أهلها أبعد وأقرب إلى الحرية والتمرد، فلا النظام استطاع تطويع أهلها، ولا الدرعاويون تمكنوا من القبول بأدنى من الحرية.
هي عشائرية، لكنها سمت فوق عصبية العشائر. هي مُحاطة بكل أساليب الموت، لكنها تُقاوم بالحد المعقول والمقبول كي لا يموت كل من فيها. فضّلت درعا أن تُعطي العالم أجمع رسالة مفادها: أن نخسر المعركة لا يعني خسارة شغفنا نحو الحرية، “نحن باقون هنا، وللحلم بقية”.
درعا لم تتوقف
قد يخيل إلى البعض بمن فيهم نظام الأسد أن شعلة الثورة في درعا قد انطفأت، واستطاع النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون وأد الثورة في مهدها، إلا أن تلك النار التي خرجت من درعا كانت تخبو حينا وتشتد آخر، فالثورة في درعا ما توقفت يومًا على الرغم من محاربتها من الجميع بمن فيهم بعض أبنائها ممن اختاروا الوقوف في صف المجرمين من أجل فتات المنافع التي لم تدم يومًا لأحد.
الثورة في درعا على الرغم من التسوية الأولى في تموز/يوليو 2018 والتي مر عليها خمس سنوات لا تزال تشكل امتدادًا ونبراسًا يهتدي به كل الثائرين في سوريا، ففي كل مرة تخرج مظاهرة في هذه المحافظة أو تلك يبرز اسم درعا فيها كإلهام ثوري صار جزءًا لا يتجزأ من التاريخ السوري.
لقد حاول النظام إسكات كل صوت ثوري معارض في درعا، اغتيالا أو خطفا أو اعتقالا أو تهجيرا، عمل جاهدا على تهجير أبنائها طوعا بتسهيلات السفر معتقدًا أنه سيكون قادرًا على السيطرة عليها، ليتفاجأ في كل مرة أن أبناءها أو من بقي منهم يهبون في أول فرصة للنيل من شرعيته التي فقدها في الأصل مع أول نقطة من دم الشهيدين حسام عياش ومحمود الجوابرة في درعا البلد.
درعا والنخوة
لم تنتظر درعا وأبناؤها “الحوارنة” يومًا أن يطلب أحد إليهم الوقوف معه، بل لطالما كانت النخوة تملأ رؤوس الرجال والنساء، الذين لم يعودوا يحتملون الظلم والقهر ليس لهم فقط بل لكل السوريين، فتراهم يشاركون بكل إمكانياتهم على الرغم من جروحهم التي لا تزال تنزف من حرب النظام وغدر أعوانه.
فوقوفها اليوم إلى جانب السويداء هو وقوف طبيعي ومنطقي، فأبناء درعا تذوقوا طعم الحرية ولم يعودوا يستسيغون أي طعم آخر، فكانت خروج المظاهرات في السويداء شقيقة درعا تتمة لما قامت بها درعا في آذار 2011، فقد عرف أحرار السويداء أنه لا بد من تكملة ما بدأته درعا بعد كل التجارب الفاشلة لإيجاد أي حلول مع نظام بات وبشكل علني ينظر إلى السوريين كأنهم جزء من مزرعته التي يعتبرهم عبيدا فيها.
لكن حوران بسهلها وجبلها لم تقبل يوما أن تكون هكذا، لكن النظام لم يقرأ التاريخ عندما ثار أبناء حوران في السهل والجبل ضد الفرنسيين، لم يقرأ عن معركة المسيفرة، أو خربة غزالة، أو معركة المذخر، أو معارك جبل حوران، ومن لا يقرأ التاريخ جيدًا فإن هزيمته حتمية لا محالة، واليوم بدأت حوران تدق المسمار الأخير في نعش النظام الميت سريريًا، فمن خرج اليوم لإسقاطه يعلم يقينًا أن التوقف في المنتصف أو العودة هو انتحار ومقتل للثورة وآمال السوريين.
درعا والمستقبل
شعارات واضحة ومختلفة عما كانت من قبل، تلك التي نادى بها أبناء السويداء اليوم، واضحة بحيث لم تترك مجالاً للرجوع أو التوقف، خاصة في وجود درعا وأبنائها الذين لا يزالون ينادون بها منذ أعوام، لتشكل درعا والسويداء ثنائية الحرية لسوريا في المرحلة القادمة.
بات السوريون اليوم يعلمون أن بقاء نظام الأسد لمدة أطول يعني دمار حياتهم وحياة أبنائهم بالكامل، على الرغم أن قسمًا منهم لا يزال يلتزم الصمت بمن فيهم أبناء الساحل الذين احتضن قسم كبير منهم هذا النظام وخسروا على إثر ذلك الآلاف من أبنائهم ليجدوا مؤخرًا أن خسارتهم من أجل نظام مجرم أزف موعد رحيله، ويعلمون الآن أنه لم يبق لديهم إلا الاعتراف بأخطائهم والرجوع لشعبهم الذي يعتبر أن الثورة تجب ما قبلها، لا لشيء وإنما ليتمكن السوريون من العيش مجددًا، وليتمكنوا من بناء ما دمّره النظام وحلفاؤه.
وهنا يبرز السؤال الذي لا يزال يتكرر منذ 2011 وحتى الآن، هل سيشاهد السوريون الثائرون في الجنوب والشمال ودير الزور وغيرها أبناء دمشق والساحل ينتفضون لأجل ما تبقى من سوريا؟ لأجل ما تبقى من فرصة لهم للعيش بكرامة بعيدًا عما فرضه نظام الأسدين خلال نصف قرن من ذل وإهانة واعتقال وقتل وإخفاء لمن يطلب حقه برغيف الخبز؟
ها هي درعا والسويداء اليوم تشتعلان بالثورة معًا، تفتحان الطريق للجميع ليسير فيه، طريق وإن كان فيه من العقبات ما كان، إلا أن في نهايته الحرية التي لا تأتي هبة من أحد، إنما تُنتزع انتزاعًا من براثن المجرمين والقتلة القابعين في دمشق.
المستقبل للسوريين الأحرار، هي سنة الحياة فعلى مر التاريخ لم يتمكن أي ديكتاتور أو مجرم أن يمسح شعبًا كاملا ليبقى على كرسيه، والأسد لن يكون استثناءًا وستكون نهايته هي الأسوأ بين كل المجرمين، لن يرحمه الشعب السوري، لن يرحمه التاريخ الذي سيذكر دائمًا جرائمه وقتله الأطفال في الحولة ذبحًا، وأطفال الغوطة خنقًا بالغازات السامة، وأطفال درعا بالبراميل المتفجرة.
في درعا لأجل الأطفال قامت الثورة، ولكرامة “العكال” اشتدّت العزائم، ولنصرة دم السوري هان الموت، ثلاثية الفداء (المستقبل، التاريخ، النخوة) سيذكرها التاريخ، سيختزلها السوريون بكلمة واحدة: (درعا).